حرية الرأي والضوابط الشرعية للتعبير عنه
.د.هاني بن عبد الله بن جبير
( كفل الإسلام حريَّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ ، وحرية الرأي والتعبير تعني : تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق ، وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا ، فيما يحقق نفع المسلمين ، ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع ، ويحفظ النظام العام ، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها ، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق جل وعلا ، فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يُغضب الله ، أو يُلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء ، ويُخل بالنظام العام وحسن الآداب ) [1] .
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصِّل إليه ، منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم ، ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها ، كوسائل الإعلام الحديثة .
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعٍ كبير لتناول الأطروحات ، وتبادل الآراء ، وتعاطي الحوارات ، كما يشاهد ما يسلكه كل ذي رأي من وسائل للتعبير عمَّا في نفسه ليستشعر أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة .
والباحث الشرعي إذ يدرس أي نازلة أو يبحث في أي فكرة ؛ فهمّه تنزيل الأحكام على الوقائع ، ورائده تطلُّب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه .
وفي هذه الأوراق القليلة نظرات عاجلة تبيّن ضوابط في هذا الموضوع ؛ علَّها تكون مقدمة لدراسات أكثر جداً وتوسعاً .
* أولاً : قواعد ومقدمات :
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها ، وسأتناول هنا مقدمات أصول أربعة :
الأولى : مجالات إبداء الرأي .
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة ، سواء كان متعلقاً بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة ، فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه ،{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ( الأحزاب : 36 ) .
وهذا أظهر من أن يُستدل له ؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره .
ومعنى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً و بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ؛ هو التحاكم إلى منهاج الله تعالى ورد الأمر إليه ، ولذا نفى الله تعالى الإيمان عمن لم يستكمل هذا فقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ( النساء : 65 ) .
وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان ، وهو معنى الإسلام ، فإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لله والانقياد له ، ومن لم يرد إليه الأمر لم ينعقد له . ودين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ، وهي الأصول المعصومة التي لا يجوز تجاوزها أو الخروج عنها [2] . وعلى أساسها توزن جميع الآراء والأقوال والأعمال [3] . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } ( الحجرات : 1 ) ،قال الحافظ ابن كثير في معنى الآية : ( أي لا تُسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي قبله ، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه الى اليمن بم تحكم ؟ قال :» :
بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله « [4]. فالغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدَّمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : » { لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة « . وقال مجاهد :» لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله تعالى على لسانه « ) [5] .
وعلى هذا الهدي في الرد إلى الكتاب والسنة وعدم مخالفتهما مهما ظهر بالرأي والفكر مخالفتهما للمصالح ؛ سار سلف هذه الأمة .
قال أبو الزناد - رحمه الله - : » إن السنن لا تُخاصَم ، ولا ينبغي لها أن تُتبع بالرأي والتفكير ، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين ، ولكنه ينبغي للسنن أن تُلزم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه « [6] .
ولذا كان مجال الرأي في الإسلام مجالاً محكوماً بالكتاب والسنة والإجماع ، فما قرر فيها فهو أصل معصوم لا يُخرج عنه .
وإذا أعمل الإنسان رأيه وقرر نتائج بناها على مقتضى المصالح أو غيرها وهي معارضة لكتاب الله وسنة رسوله ؛ فقد راغم الشرع ولم يقابله بالرضى والتسليم [7] .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وورّثها ولدها ومن معهم ، فقام حَمَل بن النابغة الهذلي فقال : يا رسول الله ! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل ؛ فمثل ذلك يُطَل ؟ [8] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع « [9] .
قال العلماء إنما ذم سجعه لأنّه عارض حكم الشرع ورام إبطاله ، ولذا شبهه بالكهان الذين يروّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين [10] .
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع ؛ فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي .وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر الله به وسكت عن طريقة تنفيذه ، أو ما لم يرد به نص محكم . ولذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم أن
( لا اجتهاد في موارد النص ) [11] ، وأن ما عارض النص ففاسد الاعتبار [12] .
.
(1) تضمين من كتاب حقوق الإنسان في الإسلام ، د / سليمان الحقيل ، ص 54 .
(2) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ، 20/164 .
(3) مجموع الفتاوى ، (3/157) .
(4) سنن أبي داود (3592) ، سنن الترمذي (1327) ، مسند أحمد (5/ 236) ، مسند الطيالسي
(559) ، قال ابن حجر في التلخيص (4/182) : (إسناده ضعيف) ، وصححه الخطيب البغدادي في
الفقيه والمتفقه ، (1/189) .
(5) تفسير القرآن العظيم ، (4/206) .
(6) الفقيه والمتفقه ، للخطيب البغدادي ، (1/392) .
(7) انظر : بيان الدليل على تحريم التحليل ، ص 250 .
(
يُطَل : يعني يلغى ويهدر .
(9) صحيح البخاري ، رقم (5758) ، صحيح مسلم ، رقم (1681) .
(10) إحكام الأحكام ، لابن دقيق العيد ، مع حاشيته العدة ، (4/332) .
(11) المادة الرابعة عشرة من قواعد المجلّة ، وانظر : شرح القواعد الفقهيّة ، للزرقا ، ص 147 .
(12) آداب البحث ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، (2/129) .